فصل: فَصْلٌ: وَقْتُ التَّكْبِيرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: وَقْتُ التَّكْبِيرِ:

وَأَمَّا وَقْتُ التَّكْبِيرِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي ابْتِدَاءِ وَقْتِ التَّكْبِيرِ وَانْتِهَائِهِ، اتَّفَقَ شُيُوخُ الصَّحَابَةِ نَحْوُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى الْبِدَايَةِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَتْمِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُخْتَمُ عِنْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ يُكَبِّرُ ثُمَّ يُقْطَعُ وَذَلِكَ ثَمَانِ صَلَوَاتٍ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ عَلِيٌّ يَخْتِمُ عِنْدَ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَيُكَبِّرُ لِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْتِمُ عِنْدَ الظُّهْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَأَمَّا الشُّبَّانُ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى الْبِدَايَةِ بِالظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَخَذَ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْخَتْمِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَخْتِمُ عِنْدَ الظُّهْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَخْتِمُ عِنْدَ الْفَجْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ.
(أَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْبِدَايَةِ فَوَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أَمْرٌ بِالذِّكْرِ عَقِيبَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَقَضَاءُ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَقَعُ فِي وَقْتِ الضَّحْوَةِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَاقْتَضَى وُجُوبَ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي تَلِيهِ وَهِيَ الظُّهْرُ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} وَهِيَ أَيَّامُ الْعَشْرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِي جَمِيعِهَا وَاجِبًا إلَّا أَنَّ مَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ خُصَّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَلَا إجْمَاعَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَالْأَضْحَى فَوَجَبَ التَّكْبِيرُ فِيهِمَا عَمَلًا بِعُمُومِ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ لِتَعْظِيمِ الْوَقْتِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ الْمَنَاسِكُ، وَأَوَّلُهُ يَوْمُ عَرَفَةَ إذْ فِيهِ يُقَامُ مُعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ، وَلِهَذَا قَالَ مَكْحُولٌ: يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهَا سَاكِتَةٌ عَنْ الذِّكْرِ قَبْلَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ فَلَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهَا.
(وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي الْخَتْمِ فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْأَحْدَاثِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِوُقُوفِهِمْ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ مِنْ الشَّرَائِعِ دُونَ مَا نُسِخَ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ لِكَوْنِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةً إلَّا فِي مَوْضِعٍ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَكَانَ التَّكْبِيرُ فِيهَا وَاجِبًا؛ وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ شُرِعَ لِتَعْظِيمِ أَمْرِ الْمَنَاسِكِ، وَأَمْرُ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَنْتَهِي بِالرَّمْيِ فَيَمْتَدُّ بِالتَّكْبِيرِ إلَى آخِرِ وَقْتِ الرَّمْيِ؛ وَلِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا، وَلَأَنْ يَأْتِيَ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَتْرُكَ مَا عَلَيْهِ بِخِلَافِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ حَيْثُ لَمْ نَأْخُذْ هُنَاكَ بِالْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَهُنَاكَ تَرَجَّحَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ وَالْأَخْذُ بِالرَّاجِحِ أَوْلَى، وَهَاهُنَا لَا رُجْحَانَ بَلْ اسْتَوَتْ مَذَاهِبُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الثُّبُوتِ وَفِي الرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَالسُّنَّةُ فِي الْأَذْكَارِ الْمُخَافَتَةُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اُدْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ» وَلِذَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى التَّضَرُّعِ وَالْأَدَبِ وَأَبْعَدُ عَنْ الرِّيَاءِ فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ جَاءَ الْمُخَصِّصُ لِلتَّكْبِيرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامِ مَعْلُومَاتٍ} وَهِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ.
وَالْعَمَلُ بِالْكِتَابِ وَاجِبٌ إلَّا فِيمَا خُصَّ بِالْإِجْمَاعِ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ فِيمَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ وَلَا إجْمَاعَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي الْخُصُوصِ.
وَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا تَخْصِيصَ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ وَتَرَدُّدِ التَّكْبِيرِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي دَلِيلِ التَّخْصِيصِ فَلَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِدَلِيلِ عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {اُدْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}.
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي التَّرْكِ لَا فِي الْإِتْيَانِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ أَوْلَى مِنْ إتْيَانِ الْبِدْعَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ أَمْرَ الْمَنَاسِكِ إنَّمَا يَنْتَهِي بِالرَّمْيِ فَنَقُولُ رُكْنُ الْحَجِّ، الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلَانِ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ فَأَمَّا الرَّمْيُ فَمِنْ تَوَابِعِ الْحَجِّ فَيُعْتَبَرُ فِي التَّكْبِيرِ وَقْتُ الرُّكْنِ لَا وَقْتُ التَّوَابِعِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ الذِّكْرُ عَلَى الْأَضَاحِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْهَا الذِّكْرُ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} وَالتَّعَجُّلُ وَالتَّأْخِيرُ إنَّمَا يَقَعَانِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ لَا فِي التَّكْبِيرِ.

.فَصْلٌ: مَحَلُّ أَدَاءِ التَّكْبِيرِ:

وَأَمَّا مَحَلُّ أَدَائِهِ، فَدُبُرُ الصَّلَاةِ، وَإِثْرُهَا، وَفَوْرُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَلَّلَ مَا يَقْطَعُ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ حَتَّى لَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ تَكَلَّمَ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ جَاوَزَ الصُّفُوفَ فِي الصَّحْرَاءِ لَا يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ خَصَائِصِ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا عَقِيبَ الصَّلَاةِ فَيُرَاعَى لِإِتْيَانِهِ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ، وَهَذِهِ الْعَوَارِضُ تَقْطَعُ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ فَيَقْطَعُ التَّكْبِيرَ.
وَلَوْ صَرَفَ وَجْهَهُ عَنْ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ وَلَمْ يُجَاوِزْ الصُّفُوفَ أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ بَاقِيَةٌ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُبْنَى؟ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَقْطَعُ الْبِنَاءَ يَقْطَعُ التَّكْبِيرَ وَمَا لَا فَلَا، وَإِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَإِنْ شَاءَ ذَهَبَ فَتَوَضَّأَ وَرَجَعَ فَكَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَبَّرَ مِنْ غَيْرِ تَطْهِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ لِلطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ لَمَّا لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الطَّهَارَةِ كَانَ خُرُوجُهُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ قَاطِعًا لِفَوْرِ الصَّلَاةِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّكْبِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيُكَبِّرُ لِلْحَالِ جَزْمًا.
وَلَوْ نَسِيَ الْإِمَامُ التَّكْبِيرَ فَلِلْقَوْمِ أَنْ يُكَبِّرُوا وَقَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ: صَلَّيْتُ بِهِمْ الْمَغْرِبَ فَقُمْتُ وَسَهَوْتُ أَنْ كَبَّرَ فَكَبَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ وَعَلَيْهِ سَهْوٌ فَلَمْ يَسْجُدْ لِسَهْوِهِ لَيْسَ لِلْقَوْمِ أَنْ يَسْجُدُوا حَتَّى لَوْ قَامَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ تَكَلَّمَ سَقَطَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ، وَالْفَرْقُ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْجُزْءِ الْفَائِتِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالْجَابِرُ يَكُونُ بِمَحَلِّ النَّقْصِ وَلِهَذَا يُؤَدِّي فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ، إمَّا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ أَوْ؛ لِأَنَّهُ عَادَ وَشَيْءٌ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يُؤَدَّى بَعْدَ انْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ وَلَا تَحْرِيمَةَ بَعْدَ قِيَامِ الْإِمَامِ فَلَا يَتَأَتَّى بِهِ الْمُقْتَدِي فَأَمَّا التَّكْبِيرُ فَلَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَيُشْتَرَطُ لَهُ التَّحْرِيمَةُ وَيُوجِبُ الْمُتَابَعَةَ؛ لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ أَتَى بِهِ الْإِمَامُ يَتْبَعُهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ مُتَّصِلًا بِهَا فَيُنْدَبُ إلَى اتِّبَاعِ مَنْ كَانَ مَتْبُوعًا فِي الصَّلَاةِ، فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهِ الْإِمَامُ أَتَى بِهِ الْقَوْمُ لِانْعِدَامِ الْمُتَابَعَةِ بِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ كَالسَّامِعِ مَعَ التَّالِي أَيْ: إنْ سَجَدَ التَّالِي يَسْجُدُ مَعَهُ السَّامِعُ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ التَّالِي يَأْتِي بِهِ السَّامِعُ كَذَا هَاهُنَا، وَلِهَذَا لَا يَتَّبِعُ الْمُقْتَدِي رَأْيَ إمَامِهِ حَتَّى إنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمُقْتَدِي يَرَى رَأْيَ عَلِيٍّ فَصَلَّى صَلَاةً بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَمْ يُكَبِّرْ الْإِمَامُ اتِّبَاعًا لِرَأْيِهِ يُكَبِّرُ الْمُقْتَدِي اتِّبَاعًا لِرَأْيِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ لِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ الَّتِي بِهَا صَارَ تَابِعًا لَهُ فَكَذَا هَذَا.
وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ مُحْرِمًا وَقَدْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ سَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ ثُمَّ لَبَّى؛ لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يُؤْتَى بِهِ فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِهَذَا يُسَلِّمُ بَعْدَهُ.
وَلَوْ اقْتَدَى بِهِ إنْسَانٌ فِي سُجُودِ السَّهْوِ صَحَّ اقْتِدَاؤُهُ فَأَمَّا التَّكْبِيرُ وَالتَّلْبِيَةُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَا يُسَلِّمُ بَعْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُقْتَدِي بِهِ اتِّبَاعًا لِرَأْيِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ لِانْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ الَّتِي بِهَا صَارَ تَابِعًا لَهُ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ مُحْرِمًا وَقَدْ سَهَا بِهِ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ وَالتَّلْبِيَةِ فَيُقَدِّمُ السَّجْدَةَ ثُمَّ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَإِنْ كَانَ يُؤْتَى بِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الصَّلَاةِ فَلَا يُؤْتَى بِهِ إلَّا عَقِيبَ الصَّلَاةِ، وَالتَّلْبِيَةُ لَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ الصَّلَاةِ بَلْ يُؤْتَى بِهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ كُلَّمَا هَبَطَ وَادِيًا أَوْ عَلَا شَرَفًا أَوْ لَقِيَ رَكْبًا.
وَمَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ الشَّيْءِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ مِنْهُ فَيُجْعَلُ التَّكْبِيرُ كَأَنَّهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الصَّلَاةِ لَمْ يُوجَدْ اخْتِلَافُ الْحَالِ فَكَذَا مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ التَّكْبِيرِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَبَدَّلْ الْحَالُ فَلَا يَأْتِي بِالتَّلْبِيَةِ.
وَلَوْ سَهَا وَبَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ قَبْلَ السَّجْدَةِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ قَطْعَ صَلَاتَهُ وَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَلَوْ لَبَّى أَوَّلًا فَقَدْ انْقَطَعَتْ صَلَاتُهُ وَسَقَطَتْ عَنْهُ سَجْدَتَا السَّهْوِ وَالتَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ تُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْوَضْعِ جَوَابٌ لِكَلَامِ النَّاسِ، وَغَيْرُهَا مِنْ كَلَامِ النَّاسِ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ فَكَذَا هِيَ، وَتَسْقُطُ سَجْدَةُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ إلَّا فِي التَّحْرِيمَةِ وَلَا تَحْرِيمَةَ، وَيَسْقُطُ التَّكْبِيرُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ إلَّا مُتَّصِلًا بِالصَّلَاةِ وَقَدْ زَالَ الِاتِّصَالُ وَعَلَى هَذَا الْمَسْبُوقُ لَا يُكَبِّرُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْمَسْبُوقُ بَعْدُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَلَا يَأْتِي بِهِ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْه التَّكْبِيرُ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الرِّجَالِ الْعَاقِلِينَ الْمُقِيمِينَ الْأَحْرَارِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْمُصَلِّينَ الْمَكْتُوبَةَ بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ، فَلَا يَجِبُ عَلَى النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْمُسَافِرِينَ وَأَهْلِ الْقُرَى وَمَنْ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ وَالْفَرْضَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُؤَدِّي مَكْتُوبَةً فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ كَانَ فِي أَيِّ مَكَان كَانَ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ فَرْضًا كَانَتْ الصَّلَاةُ أَوْ نَفْلًا؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ فَمَا شُرِعَ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ يَكُونُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُكَبِّرَانِ عَقِيبَ التَّطَوُّعَاتِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمَا خِلَافُ ذَلِكَ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا فِي مَوْضِعٍ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَمَا وَرَدَ النَّصُّ إلَّا عَقِيبَ الْمَكْتُوبَاتِ وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا نَذْكُرُ، وَالنَّوَافِلُ لَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ وَكَذَا لَا يُكَبَّرُ عَقِيبَ الْوِتْرِ عِنْدَنَا.
أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ نَفْلٌ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ لَا يُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَلَيْسَ بِمَكْتُوبٍ وَالْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا نَصَّ وَلَا إجْمَاعَ إلَّا فِي الْمَكْتُوبَاتِ.
وَكَذَا لَا يُكَبَّرُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعِيدِ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَيُكَبَّرُ عَقِيبَ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ كَالظُّهْرِ.
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ أَصْحَابِنَا فَهُمَا احْتَجَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}، وَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدِ مَكَان أَوْ جِنْسٍ أَوْ حَالٍ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَا يُوجِبُ قَطْعَ الصَّلَاةِ مِنْ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ يُوجِبُ قَطْعَ التَّكْبِيرِ فَكُلُّ مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ يَنْبَغِي أَنْ يُكَبِّرَ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ.
وَالْمُرَادُ مِنْ التَّشْرِيقِ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ هَكَذَا قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَكَانَ مِنْ أَرْبَابِ اللُّغَةِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ، وَلِأَنَّ التَّصْدِيقَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِظْهَارُ، وَالشُّرُوقَ هُوَ الظُّهُورُ يُقَالُ: شَرَقَتْ الشَّمْسُ إذَا طَلَعَتْ وَظَهَرَتْ سُمِّيَ مَوْضِعُ طُلُوعِهَا وَظُهُورِهَا مَشْرِقًا لِهَذَا، وَالتَّكْبِيرُ نَفْسُهُ إظْهَارٌ لِكِبْرِيَاءِ اللَّهِ وَهُوَ إظْهَارُ مَا هُوَ مِنْ شِعَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ تَشْرِيقًا، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ بِقَوْلِهِ: وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا عَلَى إلْقَاءِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بِالْمَشْرِقَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان فَتَعَيَّنَ التَّكْبِيرُ مُرَادًا بِالتَّشْرِيقِ وَلِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَإِعْلَامُ الدِّينِ وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَشْتَهِرُ فِيهِ وَيَشِيعُ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا فِي الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَلِهَذَا يَخْتَصُّ بِهِ الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهِ الْمُنْفَرِدُ وَالنِّسْوَانُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاشْتِهَارِ يَخْتَصُّ بِالْجَمَاعَةِ دُونَ الْأَفْرَادِ وَلِهَذَا لَا يُصَلِّي الْمُنْفَرِدُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، وَأَمْرُ النِّسْوَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّتْرِ دُونَ الْإِشْهَارِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهَا.
وَأَمَّا الْأُولَى فَنَحْمِلُهَا عَلَى خُصُوصِ الْمَكَانِ وَالْجِنْسِ وَالْحَالِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَمَا ذَكَرُوا مِنْ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ مُسَلَّمٌ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْمِصْرِ وَالْجَمَاعَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الشَّرَائِطِ، فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِهَا فَلَا نُسَلِّمُ التَّبِيعَةَ.
وَلَوْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْبِيرُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ تَابِعًا لِإِمَامِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَغَيَّرَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا فَيُكَبِّرُ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ، وَكَذَا النِّسَاءُ إذَا اقْتَدَيْنَ بِرَجُلٍ وَجَبَ عَلَيْهِنَّ عَلَى سَبِيلِ الْمُتَابَعَةِ فَإِنْ صَلَّيْنَ بِجَمَاعَةٍ وَحْدَهُنَّ فَلَا تَكْبِيرَ عَلَيْهِنَّ لِمَا قُلْنَا.
وَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ إذَا صَلَّوْا فِي الْمِصْرِ بِجَمَاعَةٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِمْ التَّكْبِيرَ وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا تَكْبِيرَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ مُغَيِّرٌ لِلْفَرْضِ مُسْقِطٌ لِلتَّكْبِيرِ ثُمَّ فِي تَغَيُّرِ الْفَرْضِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصَلُّوا فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجَ الْمِصْرِ فَكَذَا فِي سُقُوطِ التَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّ الْمِصْرَ الْجَامِعَ شَرْطٌ وَالْمُسَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ فَالْتَحَقَ الْمِصْرُ فِي حَقِّهِ بِالْعَدَمِ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ التَّكْبِيرِ:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ التَّكْبِيرِ فِيمَا دَخَلَ مِنْ الصَّلَوَاتِ فِي حَدِّ الْقَضَاءِ فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو إمَّا إنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَوْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، أَوْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَإِنْ فَاتَتْهُ فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يُكَبِّرُ عَقِيبَهَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسْبِ الْأَدَاءِ وَقَدْ فَاتَتْهُ بِلَا تَكْبِيرٍ فَيَقْضِيهَا كَذَلِكَ، وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَقَضَاهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يُكَبِّرُ عَقِيبِهَا أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ وَقَدْ فَاتَتْهُ مَعَ التَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ فِي الْأَصْلِ إلَّا حَيْثُ وَرَدَ الشَّرْعُ وَالشَّرْعُ مَا وَرَدَ بِهِ فِي وَقْتِ الْقَضَاءِ فَبَقِيَ بِدْعَةً.
فَإِنْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَقَضَاهَا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لَا يُكَبِّرُ أَيْضًا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ إلَّا فِي مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِجَعْلِ هَذَا الْوَقْتِ وَقْتًا لِرَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ صَلَاةٍ هِيَ مِنْ صَلَوَاتِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِجَعْلِهِ وَقْتًا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَبَقِيَ بِدْعَةً كَأُضْحِيَّةٍ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهَا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَإِنْ عَادَ الْوَقْتُ، وَكَذَا رَمْيُ الْجِمَارِ لِمَا ذَكَرْنَا فَكَذَا هَذَا وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَقَضَاهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ يُكَبِّرُ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ سُنَّةُ الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ وَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْقَضَاءِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتًا لِتَكْبِيرَاتِ الصَّلَوَاتِ الْمَشْرُوعَاتِ فِيهَا.

.فَصْلٌ: سُنَنُ التَّكْبِيرِ:

وَأَمَّا سُنَنُهَا فَكَثِيرَةٌ، بَعْضُهَا صَلَاةٌ بِنَفْسِهِ، وَبَعْضُهَا مِنْ لَوَاحِقِ الصَّلَاةِ.
أَمَّا الَّذِي هُوَ الصَّلَاةُ بِنَفْسِهِ فَالسُّنَنُ الْمَعْهُودَةُ الَّتِي يُؤَدِّي بَعْضُهَا قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ وَبَعْضُهَا بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ وَلَهَا فَصْلٌ مُنْفَرِدٌ نَذْكُرُهَا فِيهِ بِعَلَائِقِهَا.
وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَاحِقِ الصَّلَاةِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَنَوْعٌ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَنَوْعُ يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ.
أَمَّا الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَسُنَنُ الِافْتِتَاحِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ، مِنْهَا أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ لِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقِرَانُ النِّيَّةِ أَقْرَبُ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِخْلَاصِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ مَا نَوَاهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ نَصًّا وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ فَقَالَ: وَإِذَا أَرَدْت أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي، فَكَذَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ صَلَاةَ كَذَا فَيَسِّرْهَا لِي وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي؛ لِأَنَّ هَذَا سُؤَالُ التَّوْفِيقِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْأَدَاءِ وَالْقَبُولِ بَعْدَهُ فَيَكُونُ مَسْنُونًا.
(وَمِنْهَا) حَذْفُ التَّكْبِيرِ لِمَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْأَذَانُ جَزْمٌ، وَالْإِقَامَةُ جَزْمٌ، وَالتَّكْبِيرُ جَزْمٌ» وَلِأَنَّ إدْخَالَ الْمَدِّ فِي ابْتِدَاءِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالِاسْتِفْهَامُ يَكُونُ لِلشَّكِّ وَالشَّكُّ فِي كِبْرِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ، وَقَوْلُهُ أَكْبَرُ لَا مَدَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلُ، وَأَفْعَلُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَدَّ لُغَةً، وَمِنْهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي أَصْلِ الرَّفْعِ، وَفِي وَقْتِهِ، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ، وَفِي مَحَلِّهِ.
أَمَّا أَصْلُ الرَّفْعِ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ، وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي عَشْرَةِ رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: هَاتِ، فَقَالَ: رَأَيْته إذَا كَبَّرَ عِنْدَ فَاتِحَةِ الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ وَعَلَى هَذَا إجْمَاعُ السَّلَفِ.
وَأَمَّا وَقْتُهُ فَوَقْتُ التَّكْبِيرِ مُقَارِنًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ.
التَّكْبِيرُ شُرِعَ لِإِعْلَامِ الْأَصَمِّ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ إلَّا بِالْقِرَانِ.
وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ فَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ نَاشِرًا أَصَابِعَهُ مُسْتَقْبِلًا بِهِمَا الْقِبْلَةَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرَادَ بِالنَّشْرِ تَفْرِيجَ الْأَصَابِعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَهُمَا مَفْتُوحَتَيْنِ لَا مَضْمُومَتَيْنِ حِينَ تَكُونُ الْأَصَابِعُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ لَا يُفَرِّجُ كُلَّ التَّفْرِيجِ وَلَا يَضُمُّ كُلَّ الضَّمِّ بَلْ يَتْرُكُهُمَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَصَابِعُ فِي الْعَادَةِ بَيْنَ الضَّمِّ وَالتَّفْرِيجِ.
وَأَمَّا مَحَلُّهُ فَقَدْ ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ وَفَسَّرَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي الْمُجَرَّدِ فَقَالَ: قَالَ: أَبُو حَنِيفَةَ يَرْفَعُ حَتَّى يُحَاذِي بِإِبْهَامَيْهِ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَيْدِي عِنْدَ التَّكْبِيرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْفَعُ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: حِذَاءَ رَأْسِهِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ».
(وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ» وَلِأَنَّ هَذَا الرَّفْعَ شُرِعَ لِإِعْلَامِ الْأَصَمِّ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَمْ يُرْفَعْ فِي تَكْبِيرَةٍ هِيَ عِلْمٌ لِلِانْتِقَالِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْأَصَمَّ يَرَى الِانْتِقَالَ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالتَّوْفِيقُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ وَاجِبٌ فَمَا رُوِيَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْعُذْرِ حِينَ كَانَتْ عَلَيْهِمْ الْأَكْسِيَةُ وَالْبَرَانِسُ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ فَكَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ الرَّفْعُ إلَى الْأُذُنَيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَوَجَدْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى الْآذَانِ ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقَابِلِ وَعَلَيْهِمْ الْأَكْسِيَةُ وَالْبَرَانِسُ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ فَوَجَدْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى الْمَنَاكِبِ، أَوْ نَقُولُ: الْمُرَادُ بِمَا رَوَيْنَا رُءُوسُ الْأَصَابِعِ، وَبِمَا رُوِيَ الْأَكُفُّ وَالْأَرْسَاغُ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَهَذَا حُكْمُ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَمْ يُذْكَرْ حُكْمُهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَرْفَعُ يَدَيْهَا حِذَاءَ أُذُنَيْهَا كَالرَّجُلِ سَوَاءً؛ لِأَنَّ كَفَّيْهَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تَرْفَعُ يَدَيْهَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا وَبِنَاءُ أَمْرِهِنَّ عَلَى السَّتْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَعْتَدِلُ فِي سُجُودِهِ وَيَبْسُطُ ظَهْرَهُ فِي رُكُوعِهِ وَالْمَرْأَةُ تَفْعَلُ كَأَسْتَرَ مَا يَكُونُ لَهَا؟.
أَنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ وَيُخْفِي بِهِ الْمُنْفَرِدُ وَالْمُقْتَدِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَذْكَارِ هُوَ الْإِخْفَاءُ وَإِنَّمَا الْجَهْرُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْإِعْلَامِ فَإِنَّ الْأَعْمَى لَا يَعْلَمُ بِالشُّرُوعِ إلَّا بِسَمَاعِ التَّكْبِيرِ مِنْ الْإِمَامِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ وَالْمُقْتَدِي وَمِنْهَا أَنْ يُكَبِّرَ الْمُقْتَدِي مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ فَهُوَ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي التَّسْلِيمِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ مُقَارِنًا لِتَسْلِيمِ الْإِمَامِ كَالتَّكْبِيرِ وَفِي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: السُّنَّةُ أَنْ يُكَبِّرَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّكْبِيرِ وَإِنْ كَبَّرَ مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِهِ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ وَيَكُونُ مُسِيئًا وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ وَمَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الْقِرَانِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ مُشَارَكَةٌ وَحَقِيقَةُ الْمُشَارَكَةِ الْمُقَارَنَةُ إذْ بِهَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعِبَاد، وَبِهَذَا فَارَقَ التَّسْلِيمَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَلَّمَ بَعْدَهُ فَقَدْ وُجِدَتْ الْمُشَارَكَةُ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهَا بِسَلَامِ الْإِمَامِ.
أَنَّ الْمُؤَذِّنَ إذَا قَالَ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرَ الْإِمَامُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُكَبِّرُ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ إذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مَعَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ يُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُومُوا فِي الصَّفِّ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ يَقُومُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَيُكَبِّرُونَ عِنْدَ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْمُنْبِئَ عَنْ الْقِيَامِ قَوْلُهُ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ لَا قَوْلُهُ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ.
وَلَنَا أَنَّ قَوْلَهُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ دُعَاءٌ إلَى مَا بِهِ فَلَاحُهُمْ وَأَمْرٌ بِالْمُسَارَعَةِ إلَيْهِ فلابد مِنْ الْإِجَابَةِ إلَى ذَلِكَ وَلَنْ تَحْصُلَ الْإِجَابَةُ إلَّا بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْقِيَامُ إلَيْهَا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومُوا عِنْدَ قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ أَنَّا نَمْنَعُهُمْ عَنْ الْقِيَامِ كَيْ لَا يَلْغُوَ قَوْلُهُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ؛ لِأَنَّ مَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ الْمُبَادَرَةُ إلَى شَيْءٍ فَدُعَاؤُهُ إلَيْهِ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ إيَّاهُ يَلْغُو مِنْ الْكَلَامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْمُنْبِئَ عَنْ الْقِيَامِ قَوْلُهُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ يُنْبِئُ عَنْ قِيَامِ الصَّلَاةِ لَا عَنْ الْقِيَامِ إلَيْهَا، وَقِيَامُهَا وُجُودُهَا وَذَلِكَ بِالتَّحْرِيمَةِ لِيَتَّصِلَ بِهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا تَصْدِيقًا لَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ، ثُمَّ إذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ إذَا قَالَ: الْمُؤَذِّنُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرُوا عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ فِي إجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ فَضِيلَةً، وَفِي إدْرَاكِ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَضِيلَةٌ فلابد مِنْ الْفَرَاغِ إحْرَازًا لِلْفَضِيلَتَيْنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ؛ وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا تَكُونُ جَمِيعُ صَلَاتِهِمْ بِالْإِقَامَةِ وَفِيمَا قَالُوا بِخِلَافِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَا رُوِيَ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ إذَا انْتَهَى الْمُؤَذِّنُ إلَى قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ كَبَّرَ.
وَرُوِيَ عَنْ بِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كُنْتَ تَسْبِقُنِي بِالتَّكْبِيرِ فَلَا تَسْبِقْنِي بِالتَّأْمِينِ» وَلَوْ كَبَّرَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْإِقَامَةِ لَمَا سَبَقَهُ بِالتَّكْبِيرِ فَضْلًا عَنْ التَّأْمِينِ فَلَمْ يَكُنْ لِلسُّؤَالِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ مُؤْتَمَنُ الشَّرْعِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَاهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِيَامَ الصَّلَاةِ وُجُودُهَا فلابد مِنْ تَحْصِيلِ التَّحْرِيمَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِيُوجَدَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا فَيَصِيرُ الْمُخْبِرُ عَنْ قِيَامِهَا صَادِقًا فِي مَقَالَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْ الْمُتَرَكِّبِ مِنْ أَجْزَاءٍ لَا بَقَاءَ لَهَا لَنْ يَكُونَ إلَّا عَنْ وُجُودِ جُزْءٍ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ الْجُزْءُ وَحْدَهُ مِمَّا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُتَرَكِّبِ كَمَنْ يَقُولُ: فُلَانٌ يُصَلِّي فِي الْحَالِ يَكُونُ صَادِقًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ فِي حَالَةِ الْإِخْبَارِ إلَّا جُزْءٌ مِنْهَا؛ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ أَجْزَائِهَا فِي الْوُجُودِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرُوا مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ بِمُقَابَلَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ نَقُولُ فِي تَصْدِيقِ الْمُؤَذِّنِ فَضِيلَةٌ كَمَا أَنَّ إجَابَتَهُ فَضْلَةٌ بَلْ فَضِيلَةُ التَّصْدِيقِ فَوْقَ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ مَعَ أَنَّ فِيمَا قَالُوهُ فَوَاتَ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ أَصْلًا إذْ لَا جَوَابَ لِقَوْلِهِ: قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ مِنْ حَيْثُ الْقَوْلُ، وَلَيْسَ فِيمَا قُلْنَا تَفْوِيتُ فَضِيلَةِ الْإِجَابَةِ أَصْلًا بَلْ حَصَلَتْ الْإِجَابَةُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَا قُلْنَا سَبَبًا لِاسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَتَيْنِ فَكَانَ أَحَقَّ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ لَا بَأْسَ بِأَدَاءِ بَعْضِ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَكْثَرِ الْإِقَامَةِ، وَأَدَاءِ أَكْثَرِهَا بَعْدَ جَمِيعِ الْإِقَامَةِ إذَا كَانَ سَبَبًا لِاسْتِدْرَاكِ الْفَضِيلَتَيْنِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا اخْتَارُوا فِي الْفِعْلِ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ لِتَعَذُّرِ إحْضَارِ النِّيَّةِ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ رَفْعِ الْمُؤَذِّنِ صَوْتَهُ بِالْإِقَامَةِ، هَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَا يَقُومُونَ مَا لَمْ يَحْضُرْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُومُوا فِي الصَّفِّ حَتَّى تَرَوْنِي خَرَجْتُ».
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى النَّاسَ قِيَامًا يَنْتَظِرُونَهُ فَقَالَ مَا لِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ أَيْ: وَاقِفِينَ مُتَحَيِّرِينَ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَلَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا بِدُونِ الْإِمَامِ فَلَمْ يَكُنْ الْقِيَامُ مُفِيدًا، ثُمَّ إنْ دَخَلَ الْإِمَامُ مِنْ قُدَّامِ الصُّفُوفِ فَكَمَا رَأَوْهُ قَامُوا؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَامَ مَقَامَ الْإِمَامَةِ وَإِنْ دَخَلَ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كُلَّمَا جَاوَزَ صَفًّا قَامَ ذَلِكَ الصَّفُّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَوْ اقْتَدَوْا بِهِ جَازَ فَصَارَ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مَكَانَهُ.
وَأَمَّا الَّذِي يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الِافْتِتَاحِ فَنَقُولُ: إذَا فَرَغَ مِنْ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ يَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، أَحَدُهَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَالثَّانِي فِي وَقْتِ الْوَضْعِ، وَالثَّالِثِ فِي مَحَلِّ الْوَضْعِ، وَالرَّابِعِ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَضْعِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ السُّنَّةَ هِيَ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ، وَقَالَ مَالِكٌ: السُّنَّةُ هِيَ الْإِرْسَالُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِرْسَالَ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ، وَالْوَضْعُ لِلِاسْتِرَاحَةِ دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مَخَافَةَ اجْتِمَاعِ الدَّمِ فِي رُءُوسِ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيلُونَ الصَّلَاةِ وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَأَخْذُ الشِّمَالِ بِالْيَمِينِ فِي الصَّلَاةِ».
وَفِي رِوَايَةٍ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَأَمَّا وَقْتُ الْوَضْعِ فَكُلَّمَا فَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يُرْسِلُهُمَا حَالَةَ الثَّنَاءِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ يَضَعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَضْعَ سُنَّةُ الْقِيَامِ الَّذِي لَهُ قَرَارٌ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ سُنَّةُ الْقِرَاءَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَنُّ الْوَضْعُ فِي الْقِيَامِ الْمُتَخَلِّلِ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَرَارَ لَهُ وَلَا قِرَاءَةَ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْمَانَنَا عَلَى شَمَائِلِنَا فِي الصَّلَاةِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ خِدْمَةُ الرَّبِّ تَعَالَى وَتَعْظِيمٌ لَهُ وَالْوَضْعُ فِي التَّعْظِيمِ أَبْلَغُ مِنْ الْإِرْسَالِ كَمَا فِي الشَّاهِدِ فَكَانَ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْقِيَامُ الْمُتَخَلِّلُ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فَقَالَ: بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْوَضْعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ لَهُ ضَرْبَ قَرَارٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِرْسَالُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَضَعُ يَحْتَاجُ إلَى الرَّفْعِ فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا.
وَأَمَّا فِي حَالِ الْقُنُوتِ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْنُتَ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ نَاشِرًا أَصَابِعَهُ ثُمَّ يَكُفُّهُمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ: مَعْنَاهُ يَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَضَعُهُمَا كَمَا يَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى يَسَارِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُرْسِلُهُمَا فِي حَالَةِ الْقُنُوتِ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْإِرْسَالِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَضَعُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا بَلْ يَضَعُ وَمَعْنَى الْإِرْسَالِ أَنْ لَا يَبْسُطَهُمَا، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَبْسُطُ يَدَيْهِ بَسْطًا فِي حَالَةِ الْقُنُوتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ هَذَا قِيَامٌ فِي الصَّلَاةِ لَهُ قَرَارٌ فَكَانَ الْوَضْعُ فِيهِ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ فَكَانَ أَوْلَى.
وَأَمَّا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَالصَّحِيحُ أَيْضًا أَنْ يَضَعَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ تَحْتَ السُّرَّةِ» وَلِأَنَّ الْوَضْعَ أَقْرَبُ إلَى التَّعْظِيمِ فِي قِيَامٍ لَهُ قَرَارٌ فَكَانَ الْوَضْعُ أَوْلَى.
وَأَمَّا مَحَلُّ الْوَضْعِ فَمَا تَحْتَ السُّرَّةِ فِي حَقِّ الرِّجْلِ وَالصَّدْرُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَحَلُّهُ الصَّدْرُ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
قَوْلُهُ وَانْحَرْ أَيْ ضَعْ الْيَمِينَ عَلَى الشِّمَالِ فِي النَّحْرِ وَهُوَ الصَّدْرُ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ جُمْلَتِهَا وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فِي الصَّلَاةِ».
وَأَمَّا الْآيَةُ فَمَعْنَاهُ أَيْ صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَانْحَرْ الْجَزُورَ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَطْفِ فِي الْأَصْلِ وَوَضْعُ الْيَدِ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَأَبْعَاضِهَا وَلَا مُغَايَرَةَ بَيْنَ الْبَعْضِ وَبَيْنَ الْكُلِّ، أَوْ يُحْتَمَلُ مَا قُلْنَا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَال عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: السُّنَّةُ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ فَلَمْ يَكُنْ تَفْسِيرُ الْآيَةِ عَنْهُ.
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْوَضْعِ فَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَاخْتُلِفَ فِيهَا قَالَ: بَعْضُهُمْ يَضَعُ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَضَعُ عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَضَعُ عَلَى الْمِفْصَلِ.
وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَقَالَ: عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَقْبِضُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى رُسْغِ يَدِهِ الْيُسْرَى، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضَعُ كَذَلِكَ، وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ قَالَ: قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ فِي الْقَبْضِ وَضْعًا وَزِيَادَةً وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَيَأْخُذُ الْمُصَلِّي رُسْغَ يَدِهِ الْيُسْرَى بِوَسَطِ كَفِّهِ الْيُمْنَى وَيُحَلِّقُ إبْهَامَهُ وَخِنْصَرَهُ وَبِنْصَرَهُ وَيَضَعُ الْوُسْطَى وَالْمُسَبِّحَةَ عَلَى مِعْصَمِهِ لِيَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْوَضْعِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ اخْتَلَفَتْ، ذُكِرَ فِي بَعْضِهَا الْوَضْعُ وَفِي بَعْضِهَا الْأَخْذُ فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ أَجْمَعَ فَكَانَ أَوْلَى، ثُمَّ يَقُولُ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ، سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ مُنْفَرِدًا هَكَذَا ذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَزَادَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْمَشَاهِيرِ وَلَا يَقْرَأُ: {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي} لَا قَبْلَ التَّكْبِيرِ وَلَا بَعْدَهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: يَقُولُ مَعَ التَّسْبِيحِ: {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} {إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} وَلَا يَقُولُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَهَلْ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْكَذِبَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، فِي رِوَايَةٍ يُقَدِّمُ التَّسْبِيحَ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَدَّمَ وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَفِي قَوْلٍ يَفْتَتِحُ بِقَوْلِهِ: وَجَّهْتُ وَجْهِي لَا بِالتَّسْبِيحِ وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِي إلَخْ، وَقَالَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ إلَى آخِرِهِ، وَالشَّافِعِيُّ زَادَ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ «اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَتُبْ عَلَيَّ إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَك بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ إنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا إنَّهُ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، أَنَا بِكَ وَلَكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ» وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} ذَكَرَ الْجَصَّاصُ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَوْلُ الْمُصَلِّي عِنْدَ الِافْتِتَاحِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ.
وَرَوَى هَذَا الذِّكْرَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ بِالْآحَادِ، ثُمَّ تَأْوِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعَاتِ، وَالْأَمْرُ فِيهَا أَوْسَعُ فَأَمَّا فِي الْفَرَائِضِ فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا اشْتَهَرَ فِيهِ الْأَثَرُ أَوْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ بِالْآيَةِ أَوْ تَأَيَّدَ مَا رَوَيْنَا بِمُعَاضَدَةِ الْآيَةِ، ثُمَّ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ لِإِحْضَارِ النِّيَّةِ وَلِهَذَا لَقَّنُوهُ الْعَوَامَّ.
ثُمَّ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ إمَامًا، وَالْكَلَامُ فِي التَّعَوُّذِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ صِفَتِهِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِهِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّعَوُّذُ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ مَالِكٍ لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.
وَرُوِيَ: «أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ قَامَ لِيُصَلِّيَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَمِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ»، وَكَذَا النَّاقِلُونَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقَلُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الثَّنَاءِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ.
وَأَمَّا وَقْتُ التَّعَوُّذِ فَمَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّسْبِيحِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: وَقْتُهُ مَا بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} الْآيَةَ، أَمَرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، وَلَنَا أَنَّ الَّذِينَ نَقَلُوا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقَلُوا تَعَوُّذَهُ بَعْدَ الثَّنَاءِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَلِأَنَّ التَّعَوُّذَ شُرِعَ صِيَانَةً لِلْقِرَاءَةِ عَنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ، وَمَعْنَى الصِّيَانَةِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لَا بَعْدَهَا وَالْإِرَادَةُ مُضْمَرَةٌ فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ فَإِذَا أَرَدْت قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ كَذَا قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ} أَيْ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَيْهَا.
وَأَمَّا مَنْ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ التَّعَوُّذُ فَهُوَ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ دُونَ الْمُقْتَدِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ سُنَّةٌ فِي حَقِّهِ أَيْضًا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَحَاصِلُ الْخِلَافِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ التَّعَوُّذَ تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ أَوْ تَبَعٌ لِلْقِرَاءَةِ فَعَلَى قَوْلِهِمَا تَبَعٌ لِلْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ فَكَانَ كَالشَّرْطِ لَهَا، وَشَرْطُ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ وَعَلَى قَوْلِهِ تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ بَعْدَ الثَّنَاءِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ وَتَبَعُ الشَّيْءِ كَاسْمِهِ مَا يَتْبَعُهُ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ، إحْدَاهَا أَنَّهُ لَا تَعَوُّذَ عَلَى الْمُقْتَدِي عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُ يَتَعَوَّذُ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالثَّنَاءِ فَيَأْتِي بِمَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ، وَالثَّانِيَةِ الْمَسْبُوقُ إذَا شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ وَسَبَّحَ لَا يَتَعَوَّذُ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا يَتَعَوَّذُ إذَا قَامَ إلَى قَضَاءِ مَا سُبِقَ بِهِ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْقِرَاءَةِ وَعِنْدَهُ يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّسْبِيحِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ، وَالثَّالِثَةِ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ يَأْتِي بِالتَّعَوُّذِ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ يَرَى رَأْيَ ابْنِ عَبَّاسِ أَوْ رَأْيَ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْقِرَاءَةِ، وَعِنْدَهُ يَأْتِي بِهِ بَعْدَ التَّسْبِيحِ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا لَهُ.
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّعَوُّذِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَوْ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ لِأَنَّ أَوْلَى الْأَلْفَاظِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَقَدْ وَرَدَ هَذَانِ اللَّفْظَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ بَابِ الثَّنَاءِ وَمَا بَعْدَ التَّعَوُّذِ مَحَلُّ الْقِرَاءَةِ لَا مَحَلُّ الثَّنَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْهَرَ بِالتَّعَوُّذِ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّعَوُّذِ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ وَذَكَرَ مِنْهَا التَّعَوُّذَ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَذْكَارِ هُوَ الْإِخْفَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} فَلَا يُتْرَكُ إلَّا لِضَرُورَةٍ ثُمَّ يُخْفِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجْهَرُ بِهِ.
وَالْكَلَامُ فِي التَّسْمِيَةِ فِي مَوَاضِعَ، أَحَدِهَا أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ أَمْ لَا، وَالثَّانِي أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ أَمْ لَا، وَالثَّالِثِ أَنَّهَا مِنْ رَأْسِ السُّورَةِ أَمْ لَا، وَيَنْبَنِي عَلَى كُلِّ فَصْلٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ مَكْتُوبًا بِقَلَمِ الْوَحْيِ فَهُوَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالتَّسْمِيَةُ كَذَلِكَ، وَكَذَا رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ: التَّسْمِيَةُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ كُلُّهُ قُرْآنٌ، فَقُلْتُ: فَمَا بَالُكَ لَا تَجْهَرُ بِهَا فَلَمْ يُجِبْنِي.
وَكَذَا رَوَى الْجَصَّاصُ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: التَّسْمِيَةُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّورَةِ لِلْبُدَاءَةِ بِهَا تَبَرُّكًا وَلَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ قَالَ: ثُمَّ يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ وَيُخْفِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ يَتَأَدَّى بِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا قَرَأَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِرَاءَةِ دُونَ الثَّنَاءِ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا؛ لِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَتَأَدَّى؛ لِأَنَّ فِي كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً احْتِمَالٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَإِنَّهَا فِي النَّمْلِ وَحْدَهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ وَإِنَّمَا الْآيَةُ قَوْلُهُ: {إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِالشَّكِّ وَكَذَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَتُهَا عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ.
أَمَّا عَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الْآيَةِ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ، وَكَذَا عَلَى رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا آيَةٌ تَامَّةٌ فَتَحْرُمُ قِرَاءَتُهَا عَلَيْهِمْ احْتِيَاطًا.
وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَعِنْدَ أَصْحَابِنَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ رَأْسِ كُلِّ سُورَةٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ فِي كَوْنِهَا مِنْ رَأْسِ كُلِّ سُورَةٍ قَوْلَانِ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: لَا أَعْرِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا عِنْدَ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا فِي الِاخْتِلَافِ نَصًّا لَكِنَّ أَمْرَهُمْ بِالْإِخْفَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ؛ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَجْهَرَ بِبَعْضِ السُّورَةِ دُونَ الْبَعْضِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سَبْعَ آيَاتٍ إحْدَاهُنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» فَقَدْ عَدَّ التَّسْمِيَةَ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ دَلَّ أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ؛ وَلِأَنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ عَلَى رَأْسِ الْفَاتِحَةِ وَكُلُّ سُورَةٍ بِقَلَمِ الْوَحْيِ فَكَانَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرًا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «قَسَّمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدِهِمَا أَنَّهُ بَدَأَ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا بِقَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَكَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِهَا لَا بِالْحَمْدِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْمُنَاصَفَةِ وَلَوْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمُنَاصَفَةُ بَلْ يَكُونُ مَا لِلَّهِ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ؛ وَلِأَنَّ كَوْنَ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَمِنْ مَوْضِعِ كَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالدَّلِيلِ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي الْمَصَاحِفِ وَلَا تَوَاتُرَ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ السُّورَةِ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِ فَعَدَّهَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ يَعُدَّهَا قُرَّاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْهَا، وَذَا دَلِيلُ عَدَمِ التَّوَاتُرِ وَوُقُوعِ الشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا مِنْ السُّورَةِ مَعَ الشَّكِّ؛ وَلِأَنَّ كَوْنَ التَّسْمِيَةِ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ لَا يُوَافِقُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِ الْمَذْهَبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ لَهُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» وَقَدْ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثُونَ آيَةً سِوَى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مِنْهَا لَكَانَتْ إحْدَى وَثَلَاثِينَ آيَةً وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَسُورَةَ الْإِخْلَاصِ أَرْبَعُ آيَاتٍ وَلَوْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ مِنْهَا لَكَانَتْ سُورَةُ الْكَوْثَرِ أَرْبَعَ آيَاتٍ وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ خَمْسَ آيَاتٍ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَفِيهِ اضْطِرَابٌ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ شَكَّ فِي ذِكْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْإِسْنَادِ وَلِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي بِلَالٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ وَقَالَ: لَقِيتُ نُوحًا فَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَالِاخْتِلَافُ فِي السَّنَدِ وَالْوَقْفِ وَالرَّفْعِ يُوجِبُ ضَعْفًا فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ فِي حَدِّ الْآحَادِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَكَوْنُ التَّسْمِيَةِ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالنَّقْلِ الْمُوجِبِ لِلْعِلْمِ مَعَ أَنَّهُ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَثْبَتُ وَأَشْهَرُ وَهُوَ حَدِيثُ الْقِسْمَةِ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَتِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ إنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ بِقَلَمِ الْوَحْيِ عَلَى رَأْسِ السُّوَرِ فَنَعَمْ لَكِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا مِنْ الْقُرْآنِ لَا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ السُّوَرِ لِجَوَازِ أَنَّهَا كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ لَا لِأَنَّهَا مِنْهَا فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا مِنْ السُّوَرِ بِالِاحْتِمَالِ، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يُجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الْجَهْرِ بِهَا وَلَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ حَتَّى يَجْهَرَ بِهَا ضَرُورَةَ الْجَهْرِ بِالْفَاتِحَةِ، وَعِنْدَهُ يَجْهَرُ بِهَا فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ كَمَا يَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ لِكَوْنِهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ مَتَى تَرَدَّدَتْ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَبَيْنَ أَنْ لَا تَكُونَ تَرَدَّدَ الْجَهْرُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْهَا الْتَحَقَتْ بِالْأَذْكَارِ، وَالْجَهْرُ بِالْأَذْكَارِ بِدْعَةٌ وَالْفِعْلُ إذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ تُغَلَّبُ جِهَةُ الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ الْبِدْعَةِ فَرْضٌ وَلَا فَرْضِيَّةَ فِي تَحْصِيلِ السُّنَّةِ أَوْ الْوَاجِبِ فَكَانَ الْإِخْفَاءُ بِهَا أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْفُونَ التَّسْمِيَةَ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ قَالَ: الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيَةِ إعْرَابِيَّةٌ وَالْمَنْسُوبُ إلَيْهِمْ بَاطِلٌ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ بِالشَّرَائِعِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِالتَّسْمِيَةِ»، ثُمَّ عِنْدَنَا إنْ لَمْ يَجْهَرْ بِالتَّسْمِيَةِ لَكِنْ يَأْتِي بِهَا الْإِمَامُ لِافْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِهَا تَبَرُّكًا كَمَا يَأْتِي بِالتَّعَوُّذِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ، وَهَلْ يَأْتِي بِهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكَعَاتِ الْأُخَرِ؟ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ، رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا إلَّا فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَفْتَتِحُ الْقِرَاءَةَ بِهَا تَبَرُّكًا وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى كَالتَّعَوُّذِ، وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إنْ لَمْ تُجْعَلْ مِنْ الْفَاتِحَةِ قَطْعًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَكِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ فَصَارَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ عَمَلًا فَمَتَى لَزِمَهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ يَلْزَمُهُ قِرَاءَةُ التَّسْمِيَةِ احْتِيَاطًا.
وَأَمَّا عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ سُورَةٍ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَأْتِي بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَأْتِي بِهَا احْتِيَاطًا كَمَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِهَا مِنْ السُّورَةِ مُنْقَطِعٌ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى مَا مَرَّ وَفِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَا إجْمَاعَ فَبَقِيَ الِاحْتِمَالُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ احْتِيَاطًا، وَلَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي حَقِّ الْجَهْرِ؛ لِأَنَّ الْمُخَافَتَةَ أَصْلٌ فِي الْأَذْكَارِ وَالْجَهْرَ بِهَا بِدْعَةٌ فِي الْأَصْلِ فَإِذَا اُحْتُمِلَ أَنَّهَا ذِكْرٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَاحْتُمِلَ أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ كَانَتْ الْمُخَافَتَةُ أَبْعَدَ عَنْ الْبِدْعَةِ فَكَانَتْ أَحَقَّ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ يُخْفِي بِالْقِرَاءَةِ يَأْتِي بِالتَّسْمِيَةِ بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُتَابَعَةِ الْمُصْحَفِ وَإِذَا كَانَ يَجْهَرُ بِهَا لَا يَأْتِي؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ لَأَخْفَى بِهَا فَيَكُونُ سَكْتَةً لَهُ فِي وَسَطِ الْقِرَاءَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ثُمَّ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالسُّورَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ وَقَدْرَهَا وَمَحَلَّ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ فِي بَيَانِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ.
وَهَاهُنَا نَذْكُرُ الْمِقْدَارَ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ، وَالْمِقْدَارَ الْمُسْتَحَبَّ مِنْ الْقِرَاءَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقَدْرُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ هُوَ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً قَصِيرَةً قَدْرَ ثَلَاثِ آيَاتٍ، أَوْ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَيِّ سُورَةٍ كَانَتْ، حَتَّى لَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَحْدَهَا أَوْ قَرَأَ مَعَهَا آيَةً أَوْ آيَتَيْنِ يُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا» وَأَقْصُرُ السُّوَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْجَوَازِ بَلْ نَفْيُ الْكَمَالِ، وَأَدَاءُ الْمَفْرُوضِ عَلَى وَجْهِ النُّقْصَانِ مَكْرُوهٌ.
وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمُسْتَحَبُّ مِنْ الْقِرَاءَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَيَقْرَأُ الْإِمَامُ فِي الْفَجْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا بِأَرْبَعِينَ آيَةً مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَيْ سِوَاهَا، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِأَرْبَعِينَ خَمْسِينَ سِتِّينَ سِوَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَرَوَى الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى مِائَةٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ لِاخْتِلَافِ الْأَخْبَارِ.
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ سُورَةَ: {ق} حَتَّى أَخَذَ بَعْضُ النِّسْوَانِ مِنْهُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْهُنَّ أُمُّ هِشَامِ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ النُّعْمَانِ وَعَنْ مُوَرِّقِ الْعِجْلِيّ قَالَ: تَلَقَّنْتُ سُورَةَ: {ق}، وَ{اقْتَرِبَتْ}، مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَثْرَةِ قِرَاءَتِهِ لَهُمَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ»، وَفِي رِوَايَةٍ: {إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}، وَ{إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}.
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْفَجْرِ بـ {الم تَنْزِيلُ} السَّجْدَةِ وَفِي الْأُخْرَى بِـ {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ}»، وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ مَا بَيْنَ سِتِّينَ آيَةً إلَى مِائَةٍ» كَذَا ذَكَرَ وَكِيعٌ.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ عُمَرُ: كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ طَلَعَتْ لَمْ تَجِدْنَا غَافِلِينَ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ: {إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ} خَنَقَتْهُ الْعَبْرَةُ فَرَكَعَ، وَوَفَّقَ بَعْض هُمْ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ: الْمَسَاجِدُ ثَلَاثٌ مَسْجِدٌ لَهُ قَوْمٌ زُهَّادٌ وَعُبَّادٌ يَرْغَبُونَ فِي الْعِبَادَةِ، وَمَسْجِدٌ لَهُ قَوْمٌ كُسَالَى غَيْرُ رَاغِبِينَ فِي الْعِبَادَةِ، وَمَسْجِدٌ لَهُ قَوْمٌ أَوْسَاطٌ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْمَلَ بِأَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ قِرَاءَةً فِي الْأَوَّلِ وَبِأَدْنَاهَا قِرَاءَةً فِي الثَّانِي وَبِأَوْسَطِهَا قِرَاءَةً فِي الثَّالِثِ عَمَلًا بِالرِّوَايَاتِ كُلِّهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ مَحْمُولًا عَلَى هَذَا، وَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ دُونِهِ.
وَذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: حَرَّرْنَا قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بِثَلَاثِينَ آيَةً، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَقَرَأَ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، وَفِي الْعَصْرِ يَقْرَأُ بِعِشْرِينَ آيَةً مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ» أَيْ سِوَاهَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعَصْرِ بِسُورَةِ: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وَ{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وَفِي الْعِشَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ» فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ حِينَ كَانَ يَقْرَأُ الْبَقَرَةَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ «أَيْنَ أَنْتَ مِنْ الشَّمْسِ وَضُحَاهَا، {وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى}»؛ وَلِأَنَّهَا تُؤَخَّرُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ فَلَوْ طَوَّلَ الْقِرَاءَةَ لَتَشَوَّشَ أَمْرُ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَوْمِ لِغَلَبَةِ النَّوْمِ إيَّاهُمْ، وَفِي الْمَغْرِبِ بِسُورَةٍ قَصِيرَةٍ خَمْسِ آيَاتٍ أَوْ سِتِّ آيَاتٍ مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَيْ سِوَاهَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ اقْرَأْ فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ بِطُوَالِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ.
وَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِتَعْجِيلِ الْمَغْرِبِ وَفِي تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ تَأْخِيرُهَا، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ مِثْلَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ سَوَاءٌ وَالْمَغْرِبُ دُونَ ذَلِكَ، وَرَوَى الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِعَبَسَ أَوْ إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ فِي الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِلَا أُقْسِمُ أَوْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَفِي الْعَصْرِ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى وَالضُّحَى أَوْ وَالْعَادِيَاتِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ {أَلْهَاكُمْ} أَوْ: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ}.
وَفِي الْمَغْرِبِ فِي الْأُولَى مِثْلَ مَا فِي الْعَصْرِ، وَفِي الْعِشَاءِ فِي الْأُولَيَيْنِ مِثْلَ مَا فِي الظُّهْرِ فَقَدْ جَعَلَهَا فِي الْأَصْلِ كَالْعَصْرِ وَفِي الْمُجَرَّدِ كَالظُّهْرِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ: وَقَدْرُ الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ لِلْمُقِيمِ قَدْرُ ثَلَاثِينَ آيَةً إلَى سِتِّينَ آيَةً سِوَى الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ مَا بَيْنَ عِشْرِينَ إلَى ثَلَاثِينَ، وَفِي الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا سِوَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِثْلُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْفَجْرِ، وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ عِشْرِينَ آيَةً سِوَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَفِي الْمَغْرِبِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ.
قَالَ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَحَبُّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي رَوَاهَا الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ مَقَادِيرِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَوَقْتُ الْفَجْرِ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فَتُطَوَّلُ فِيهِ الْقِرَاءَةُ كَيْ لَا تَفُوتَهُمْ الْجَمَاعَةُ، وَكَذَا وَقْتُ الظُّهْرِ فِي الصَّيْفِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقِيلُونَ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ وَقْتُ رُجُوعِ النَّاسِ إلَى مَنَازِلِهِمْ فَيَنْقُصُ عَمَّا فِي الظُّهْرِ وَالْفَجْرِ، وَكَذَا وَقْتُ الْعِشَاءِ وَقْتُ عَزْمِهِمْ عَلَى النَّوْمِ فَكَانَ مِثْلَ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ وَقْتُ عَزْمِهِمْ عَلَى الْأَكْلِ فَقُصِّرَ فِيهَا الْقِرَاءَةُ لِقِلَّةِ صَبْرِهِمْ عَنْ الْأَكْلِ خُصُوصًا لِلصَّائِمِينَ وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ وَحَالِ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ.
فِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ مَا يَخِفُّ عَلَى الْقَوْمِ وَلَا يَثْقُلُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّمَامِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُصَلِّيَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ».
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُصَلِّ بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ فَإِنَّ فِيهِمْ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ».
وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمَ مُعَاذٍ لَمَّا شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْوِيلَ الْقِرَاءَةِ دَعَاهُ فَقَالَ: «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ قَالَهَا ثَلَاثًا، أَيْنَ أَنْتَ مِنْ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}؟» قَالَ الرَّاوِي: «فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْمَوْعِظَةِ»، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ أَحَدٍ أَتَمَّ وَأَخَفَّ مِمَّا صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَرَأَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمًا فَلَمَّا فَرَغَ قَالُوا: أَوْجَزْتَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَمِعْتُ بُكَاءَ صَبِيٍّ فَخَشِيتُ عَلَى أُمِّهِ أَنْ تُفْتَتَنَ» دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاعِيَ حَالَ قَوْمِهِ؛ وَلِأَنَّ مُرَاعَاةَ حَالِ الْقَوْمِ سَبَبٌ لِتَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ ذَلِكَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْمُقِيمِ فَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ مَا يَخِفُّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْقَوْمِ بِأَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ».
وَلِأَنَّ السَّفَرَ مَكَانُ الْمَشَقَّةِ فَلَوْ قَرَأَ فِيهِ مِثْلَ مَا يَقْرَأُ فِي الْحَضَرِ لَوَقَعُوا فِي الْحَرَجِ وَانْقَطَعَ بِهِمْ السَّيْرُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا أُثِرَ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يُؤْثَرَ فِي قَصْرِ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى.
وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَضِّلَ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الثَّانِيَةِ فِي الْفَجْرِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُفَضِّلُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا، وَكَذَا هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ بِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى عَلَى غَيْرِهَا فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا» وَلِأَنَّ التَّفْضِيلَ تَسْبِيبٌ إلَى إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ فَيُفَضِّلُ كَمَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «كَانَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى وَفِي الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ وَهُمَا فِي الْآيِ مُسْتَوِيَتَانِ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْأَوْلَى سُورَةَ الْأَعْلَى وَفِي الثَّانِيَةِ الْغَاشِيَةَ وَهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ»، وَلِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقِرَاءَةِ فَلَا تُفَضَّلُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى إلَّا لِدَاعٍ وَقَدْ وُجِدَ الدَّاعِي فِي الْفَجْرِ وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى الْإِعَانَةِ عَلَى إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتَ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فَكَانَ التَّفْضِيلُ مِنْ بَابِ النَّظَرِ وَلَا دَاعِيَ لَهُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِكَوْنِ الْوَقْتِ وَقْتَ يَقَظَةٍ فَالتَّخَلُّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ يَكُونُ تَقْصِيرًا وَالْمُقَصِّرُ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَةَ الْأَوْلَى بِالثَّنَاءِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ لَا بِالْقِرَاءَةِ.
أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ تَامَّةٍ كَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.
وَلَوْ قَرَأَ سُورَةً وَاحِدَةً فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ وَقَالَ عَامَّتُهُمْ: لَا يُكْرَهُ وَكَذَا رَوَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، وَرَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ سُورَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ إلَى قَوْلِهِ: {قُلْ اُدْعُوَا اللَّهَ أَوْ اُدْعُوَا الرَّحْمَنَ} فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ وَخَتَمَ السُّورَةَ» وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ لَا يُكْرَهُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَوْتَرَ بِسَبْعِ سُوَرٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ» وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَجْمَعَ وَلَوْ قَرَأَ مِنْ وَسَطِ السُّورَةِ أَوْ آخِرِهَا لَا بَأْسَ بِهِ كَذَا رَوَى الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ مَا ذَكَرْنَا.
فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْفَاتِحَةِ يَقُولُ آمِينَ إمَامًا كَانَ أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ مُنْفَرِدًا وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يُؤْتَى بِالتَّأْمِينِ أَصْلًا، وَقَالَ مَالِكٌ: يَأْتِي بِهِ الْمُقْتَدِي دُونَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» حَثَّنَا عَلَى التَّأْمِينِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ.
ثُمَّ السُّنَّةُ فِيهِ الْمُخَافَتَةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْجَهْرُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَوَجْهُ التَّعَلُّقِ بِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ تَأْمِينَ الْقَوْمِ بِتَأْمِينِ الْإِمَامِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا فَلَا مَعْنًى لِلتَّعَلُّقِ، وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «آمِينَ وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ».
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَخْفَى التَّأْمِينَ» وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا».
وَلَوْ كَانَ مَسْمُوعًا لَمَا اُحْتِيجَ إلَى قَوْلِهِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ أَجِبْ أَوْ لِيَكُنْ كَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} وَمُوسَى كَانَ يَدْعُو وَهَارُونُ كَانَ يُؤَمِّنُ، وَالسُّنَّةُ فِي الدُّعَاءِ الْإِخْفَاءُ، وَحَدِيثُ وَائِلٍ طَعَنَ فِيهِ النَّخَعِيّ وَقَالَ: أَشَهِدَ وَائِلٌ؟ وَغَابَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَرَ مَرَّةً لِلتَّعْلِيمِ وَلَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ مَكَانَهُ مَعْلُومٌ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْفَاتِحَةِ فَكَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا.
وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ يَنْحَطُّ لِلرُّكُوعِ وَيُكَبِّرُ مَعَ الِانْحِطَاطِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ.
أَمَّا التَّكْبِيرُ عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ فَسُنَّةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُكَبِّرُ حَالَ مَا رَكَعَ وَإِنَّمَا يُكَبِّرُ حَالَ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُود وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ».
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ وَهُوَ يَهْوِي وَالْوَاوُ لِلْحَالِ وَلِأَنَّ الذِّكْرَ سُنَّةٌ فِي كُلِّ رُكْنٍ لِيَكُونَ مُعَظِّمًا لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ كَمَا هُوَ مُعَظِّمٌ لَهُ بِالْفِعْلِ فَيَزْدَادُ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ بِمَعْنَى الرُّكْنِ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَيْهِ فَكَانَ الذِّكْرُ فِيهِ مَسْنُونًا.
وَأَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ فَلَيْسَ بِسُنَّةٍ فِي الْفَرَائِضِ عِنْدَنَا إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ الْأَيْدِي فِي تَكْبِيرِ الْقُنُوتِ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلَ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ».
(وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ثُمَّ لَا يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ»، وَعَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْت خَلْفَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ لَا تَرْفَعُ يَدَيْكَ؟ فَقَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلَمْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الَّتِي تُفْتَتَحُ بِهَا الصَّلَاةُ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ إنَّ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ مَا كَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَّا لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَخِلَاف هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ قَبِيحٌ.
وَفِي الْمَشَاهِيرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَفِي الْعِيدَيْنِ، وَالْقُنُوتِ فِي الْوَتْرِ، وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَبِعَرَفَاتٍ وَبِجَمْعٍ وَعِنْدَ الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ».
وَرُوِيَ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيَكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلِ شُمُسٍ اُسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «قَارُّوا فِي الصَّلَاةِ» وَلِأَنَّ هَذِهِ تَكْبِيرَةٌ يُؤْتَى بِهَا فِي حَالَةِ الِانْتِقَالِ فَلَا يُسَنُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَهَا كَتَكْبِيرَةِ السُّجُودِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إعْلَامُ الْأَصَمِّ الَّذِي خَلْفَهُ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الْإِعْلَامِ بِالرَّفْعِ فِي التَّكْبِيرَاتِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا فِي حَالَةِ الِاسْتِوَاءِ كَتَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ فِي الْعِيدَيْنِ وَتَكْبِيرَاتِ الْقُنُوتِ، فَأَمَّا فِيمَا يُؤْتَى بِهِ فِي حَالَةِ الِانْتِقَالِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصَمَّ يَرَى الِانْتِقَالَ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَمَا رَوَاهُ مَنْسُوخٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعْنَا وَتَرَكَ فَتَرَكْنَا دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّ مَدَارَ حَدِيثِ الرَّفْعِ عَلَى عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ.
قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيٍّ سَنَتَيْنِ فَكَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَمُجَاهِدٌ قَالَ صَلَّيْت خَلْفَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَنَتَيْنِ فَكَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَدَلَّ عَمَلُهُمَا عَلَى خِلَافِ مَا رَوَيَا عَلَى مَعْرِفَتِهِمَا انْتِسَاخَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الرَّفْعِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الرَّفْعُ لَا تَرْبُو دَرَجَتُهُ عَلَى السُّنَّةِ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ كَانَ بِدْعَةً وَتَرْكُ الْبِدْعَةِ أَوْلَى مِنْ إتْيَانِ السُّنَّةِ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ الرَّفْعِ مَعَ ثُبُوتِهِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ وَالتَّحْصِيلُ مَعَ عَدَمِ الثُّبُوتِ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِعَمَلٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ بِالْيَدَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ تَفْسِيرُ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمِقْدَارَ الْمَفْرُوضَ مِنْ الرُّكُوعِ فِي مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا سُنَنُ الرُّكُوعِ- فَمِنْهَا أَنْ يَبْسُطَ ظَهْرَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ إذَا رَكَعَ بَسَطَ ظَهْرَهُ حَتَّى لَوْ وُضِعَ عَلَى ظَهْرِهِ قَدَحٌ مِنْ مَاءٍ لَاسْتَقَرَّ»-، وَمِنْهَا أَنْ لَا يُنَكِّسَ رَأْسَهُ وَلَا يَرْفَعُهُ أَيْ: يُسَوِّيَ رَأْسَهُ بِعَجُزِهِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ إذَا رَكَعَ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُنَكِّسْهُ».
وَرُوِيَ: «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُدَبِّحَ الْمُصَلِّي تَدْبِيحَ الْحِمَارِ» وَهُوَ أَنْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ إذَا شَمَّ الْبَوْلَ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَرَّغَ؛ وَلِأَنَّ بَسْطَ الظَّهْرِ سُنَّةٌ، وَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ مَعَ الرَّفْعِ وَالتَّنْكِيسِ، وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: السُّنَّةُ هِيَ التَّطْبِيقُ وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ كَفَّيْهِ وَيُرْسِلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إذَا رَكَعْتَ فَضَعْ كَفَّيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ وَفَرِّجْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ» وَفِي رِوَايَةٍ وَفَرِّقْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ثُنِيَتْ لَكُمْ الرُّكَبُ فَخُذُوا بِالرُّكَبِ، وَالتَّطْبِيقُ مَنْسُوخٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ رَأَى ابْنَهُ يُطَبِّقُ فِي الصَّلَاةِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يُطَبِّقُ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: رُحِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ كُنَّا نُطَبِّقُ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُهِينَا عَنْهُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَفْعَلُهُ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَمْ يَبْلُغْهُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْوَضْعُ مَعَ الْأَخْذِ لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالتَّفْرِيقُ أَمْكَنُ مِنْ الْأَخْذِ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَهَذَا قَوْلُ الْعَامَّةِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي قَوْلِ مَنْ تَرَكَ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا نَجِدُ فِي الرُّكُوعِ دُعَاءً مُؤَقَّتًا.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُطِيعٍ الْبَلْخِيّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَقَصَ مِنْ الثَّلَاثِ فِي تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّسْبِيحِ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ مَعَ كَوْنِ التَّسْبِيحِ سُنَّةً عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَدَلِيلُ كَوْنِهِ سُنَّةً مَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَلَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قَالَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» ثُمَّ السُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقُولُ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَيَصِيرُ مُمْتَثِلًا بِتَحْصِيلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، وَفِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ» وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا سَبَّحَ مَرَّةً وَاحِدَةً يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ جَعَلَ الثَّلَاثَ أَدْنَى التَّمَامِ فَمَا دُونَهُ يَكُونُ نَاقِصًا فَيُكْرَهُ وَلَوْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ دَلِيلُ اسْتِحْبَابِ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا يُسَبِّحُ إلَى أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ إمَامًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَبِّحَ ثَلَاثًا وَلَا يُطَوِّلُ عَلَى الْقَوْمِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّ التَّطْوِيلَ سَبَبُ التَّنْفِيرِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقُولُهَا أَرْبَعًا حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْقَوْمُ مِنْ أَنْ يَقُولُوهَا ثَلَاثًا، وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ يَقُولُهَا خَمْسًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَزِيدُ فِي الرُّكُوعِ عَلَى التَّسْبِيحَةِ الْوَاحِدَةِ اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَلَكَ خَشَعْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَيَقُولُ فِي السُّجُودِ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى النَّوَافِلِ ثُمَّ الْإِمَامُ إذَا كَانَ فِي الرُّكُوعِ فَسَمِعَ خَفْقَ النَّعْلِ مِمَّنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ هَلْ يَنْتَظِرُهُ أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو يُوسُفَ سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَاهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَخْشَى عَلَيْهِ أَمْرًا عَظِيمًا يَعْنِي الشِّرْكَ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، وَعَنْ أَبِي مُطِيعٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِهِ مِقْدَارَ تَسْبِيحَةٍ أَوْ تَسْبِيحَتَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُطَوِّلُ التَّسْبِيحَاتِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الْعَدَدِ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ: إنْ كَانَ الرَّجُلُ غَنِيًّا لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِظَارُ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا يَجُوزُ، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ عَرَفَ الْجَائِيَ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَظِرُهُ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَيْلَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إعَانَةً عَلَى الطَّاعَةِ.
وَإِذَا اطْمَأَنَّ رَاكِعًا رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ فَيُحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ.
أَمَّا الْمَفْرُوضُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ الرُّكُوعِ إلَى السُّجُودِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الرُّكْنِ، فَأَمَّا رَفْعُ الرَّأْسِ وَعَوْدُهُ إلَى الْقِيَامِ فَهُوَ تَعْدِيلُ الِانْتِقَالِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ فَرْضٌ عَلَى مَا مَرَّ.
وَأَمَّا سُنَنُ هَذَا الِانْتِقَالِ فَمِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ فَرْضٌ فَكَانَ الذِّكْرُ فِيهِ مَسْنُونًا وَاخْتَلَفُوا فِي مَاهِيَّةِ الذِّكْرِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ مُنْفَرِدًا، فَإِنْ كَانَ إمَامًا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَلَا يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِهِمَا، احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» وَغَالِبُ أَحْوَالِهِ كَانَ هُوَ الْإِمَامُ، وَكَذَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مُنْفَرِدٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالْمُنْفَرِدُ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الذِّكْرَيْنِ فَكَذَا الْإِمَامُ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيعَ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّحْمِيدِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْبِرِّ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كَيْ لَا يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ إمَامًا لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا، وَإِذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» قُسِّمَ التَّحْمِيدُ وَالتَّسْمِيعُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ فَجُعِلَ التَّحْمِيدُ لَهُمْ وَالتَّسْمِيعُ لَهُ، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إبْطَالُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْإِمَامِ التَّأْمِينُ أَيْضًا بِقَضِيَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا ذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ إتْيَانَ التَّحْمِيدِ مِنْ الْإِمَامِ يُؤَدِّي إلَى جَعْلِ التَّابِعِ مَتْبُوعًا وَالْمَتْبُوعِ تَابِعًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الذِّكْرَ يُقَارِنُ الِانْتِقَالَ فَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ مُقَارِنًا لِلِانْتِقَالِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ يَقُولُ الْمُقْتَدِي مُقَارِنًا لَهُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، فَلَوْ قَالَ الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ لَوَقَعَ قَوْلُهُ بَعْدَ قَوْلِ الْمُقْتَدِي فَيَنْقَلِبُ الْمَتْبُوعُ تَابِعًا وَالتَّابِعُ مَتْبُوعًا، وَمُرَاعَاةُ التَّبَعِيَّةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الِانْفِرَادِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَقَوْلُهُمْ: الْإِمَامُ مُنْفَرِدٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْمُنْفَرِدَ لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُنْفَرِدِ فَبَطَلَ الِاسْتِدْلَال.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْبِرِّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْسَى نَفْسَهُ فَنَقُولُ: إذَا أَتَى بِالتَّسْمِيعِ فَقَدْ صَارَ دَالًّا عَلَى التَّحْمِيدِ وَالدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ فَلَمْ يَكُنْ نَاسِيًا نَفْسَهُ، هَذَا إذَا كَانَ إمَامًا فَإِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ لَا غَيْرُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا اسْتِدْلَالًا بِالْمُنْفَرِدِ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إسْقَاطِ الْأَذْكَارِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْقِرَاءَةِ.
(وَلَنَا) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ التَّسْمِيعَ وَالتَّحْمِيدَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ إبْطَالُ الْقِسْمَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيعَ دُعَاءٌ إلَى التَّحْمِيدِ وَحَقُّ مَنْ دُعِيَ إلَى شَيْءٍ الْإِجَابَةُ إلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ لِإِعَادَةِ قَوْلِ الدَّاعِي، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالتَّسْمِيعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَكَذَا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ عِنْدَهُمْ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّسْمِيعِ دُونَ التَّحْمِيدِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ وَالشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ عَنْهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ لَا غَيْرَ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الرَّجُلِ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فِي الْفَرِيضَةِ أَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي؟ قَالَ: يَقُولُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَيَسْكُتُ وَمَا أَرَادَ بِهِ الْإِمَامَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالتَّحْمِيدِ عِنْدَهُ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُنْفَرِدَ.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّسْمِيعَ تَرْغِيبٌ فِي التَّحْمِيدِ وَلَيْسَ مَعَهُ مَنْ يُرَغِّبُهُ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُرَغِّبُ نَفْسَهُ فَكَانَتْ حَاجَتُهُ إلَى التَّحْمِيدِ لَا غَيْرَ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْمُعَلَّى أَنَّ التَّحْمِيدَ يَقَعُ فِي حَالَةِ الْقَوْمَةِ وَهِيَ مَسْنُونَةٌ وَسُنَّةُ الذِّكْرِ تَخْتَصُّ بِالْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ كَالتَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَلِهَذَا لَمْ يُشَرَّعْ فِي الْقَعْدَتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَا مَحْمَلَ لَهُ سِوَى حَالَةِ الِانْفِرَادِ لِمَا مَرَّ وَلِهَذَا كَانَ عَمَلُ الْأُمَّةُ عَلَى هَذَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَاخْتَلَفَتْ الْأَخْبَارُ فِي لَفْظِ التَّحْمِيدِ فِي بَعْضِهَا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَفِي بَعْضِهَا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ وَالْأَشْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَإِذَا اطْمَأَنَّ قَائِمًا يَنْحَطُّ لِلسُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ الرُّكُوعِ وَأَتَى بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ فَيَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ إلَى رُكْنٍ آخَرَ وَهُوَ السُّجُودُ إذْ الِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ فَرْضٌ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الرُّكْنِ لِمَا مَرَّ، وَمِنْ سُنَنِ الِانْتِقَالِ أَنْ يُكَبِّرَ مَعَ الِانْحِطَاطِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَدَيْهِ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بُرُوكِ الْجَمَلِ فِي الصَّلَاةِ» وَهُوَ أَنْ يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ أَوَّلًا، وَلَنَا عَيْنُ هَذَا الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْجَمَلَ يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلُ قَوْلِنَا، وَهَذَا إذَا كَانَ الرَّجُلُ حَافِيًا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ذَا خُفٍّ لَا يُمْكِنُهُ وَضْعُ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ فَإِنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا وَيُقَدِّمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ جَبْهَتَهُ ثُمَّ أَنْفَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْفَهُ ثُمَّ جَبْهَتَهُ.
وَالْكَلَامُ فِي فَرْضِيَّةِ أَصْلِ السُّجُودِ وَالْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ مِنْهُ وَمَحَلِّ إقَامَةِ الْفَرْضِ قَدْ مَرَّ فِي مَوْضِعِهِ.
وَهَاهُنَا نَذْكُرُ سُنَنَ السُّجُودِ، مِنْهَا أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةَ لِمَا رَوَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا أَنْ يَجْمَعَ فِي السُّجُودِ بَيْنَ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ فَيَضَعُهُمَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ مَنْ لَمْ يَمَسَّ أَنْفُهُ الْأَرْضَ كَمَا يَمَسُّ جَبْهَتُهُ»، وَهُوَ عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّهْدِيدِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ لِمَا مَرَّ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْجُدَ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ مِنْ الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ.
وَلَوْ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ وَوَجَدَ صَلَابَةَ الْأَرْضِ جَازَ عِنْدَنَا كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْآثَارِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَسْجُدُ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ»؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ عَلَى عِمَامَتِهِ وَهِيَ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ وَوَجَدَ صَلَابَةَ الْأَرْضِ يَجُوزُ فَكَذَا إذَا كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ وَلَوْ سَجَدَ بِهِ عَلَى حَشِيشٍ أَوْ قُطْنٍ إنْ تَسَفَّلَ جَبِينُهُ فِيهِ حَتَّى وَجَدَ حَجْمَ الْأَرْضِ أَجْزَأَهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَا إذَا صَلَّى عَلَى طُنْفُسَةٍ مَحْشُوَّةٍ جَازَ إذَا كَانَ مُتَلَبِّدًا، وَكَذَا إذَا صَلَّى عَلَى الثَّلْجِ إذَا كَانَ مَوْضِعُ سُجُودِهِ مُتَلَبِّدًا يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا.
وَلَوْ زَحَمَهُ النَّاسُ فَلَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ فَسَجَدَ عَلَى ظَهْرِ رَجُلٍ أَجْزَأَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ اُسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيكَ فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ لَكَ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ سَجَدَ عَلَى ظَهْرِ شَرِيكِهِ فِي الصَّلَاةِ يَجُوزُ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ لِلضَّرُورَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُشَارَكَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْهَا أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ فِي السُّجُودِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ إذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ»، وَمِنْهَا أَنْ يُوَجِّهَ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ فَلِيُوَجِّهَ مِنْ أَعْضَائِهِ إلَى الْقِبْلَةِ مَا اسْتَطَاعَ»، وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى رَاحَتَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «إذَا سَجَدْتَ فَاعْتَمِدْ عَلَى رَاحَتَيْكَ»، وَمِنْهَا أَنْ يُبْدِيَ ضَبْعَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عُمَرَ «وَأَبْدِ ضَبْعَيْكَ» أَيْ أَظْهِرْ الضَّبُعَ وَهُوَ وَسَطُ الْعَضُدِ بِلَحْمِهِ، وَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا سَجَدَ جَافَى عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ»، وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَدِلَ فِي سُجُودِهِ وَلَا يَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَفْتَرِشْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ»، وَقَالَ مَالِكٌ: يَفْتَرِشُ فِي النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهَا وَتَنْخَفِضُ وَلَا تَنْتَصِبَ كَانْتِصَابِ الرَّجُلِ وَتَلْزَقُ بَطْنَهَا بِفَخِذَيْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَاهُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُكَبِّرُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ قَاعِدًا وَالرَّفْعُ فَرْضٌ؛ لِأَنَّ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ فَرْضٌ فلابد مِنْ الرَّفْعِ لِلِانْتِقَالِ إلَيْهَا وَالطُّمَأْنِينَةِ فِي الْقَعْدَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ لِلِاعْتِدَالِ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَرْضٌ عَلَى مَا مَرَّ.
وَأَمَّا مِقْدَارُ الرَّفْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ مِقْدَارَ مَا تَمُرُّ الرِّيحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ أَنَّهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِقْدَارَ مَا يُسَمَّى بِهِ رَافِعًا جَازَ، وَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: إنَّهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِقْدَارَ مَا يُشْكِلُ عَلَى النَّاظِرِ أَنَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ جَازَ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْفَصْلُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ وَالِانْتِقَالُ وَهَذَا هُوَ الْمَفْرُوضُ فَأَمَّا الِاعْتِدَالُ فَمِنْ بَابِ السُّنَّةِ أَوْ الْوَاجِبِ عَلَى مَا مَرَّ وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ يُكَبِّرَ مَعَ الرَّفْعِ لِمَا مَرَّ ثُمَّ يَنْحَطُّ لِلسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مُكَبِّرًا وَيَقُولُ وَيَفْعَلُ فِيهَا مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى ثُمَّ يَنْهَضُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ وَلَا يَقْعُدُ يَعْنِي إذَا قَامَ مِنْ الْأُولَى إلَى الثَّانِيَةِ وَمِنْ الثَّالِثَةِ إلَى الرَّابِعَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً ثُمَّ يَقُومُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ اسْتَوَى قَاعِدًا وَاعْتَمَدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ حَالَةَ الْقِيَامِ» وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ يَنْهَضُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ».
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ هُمْ كَانُوا يَنْهَضُونَ عَلَى صُدُورِ أَقْدَامِهِمْ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الضَّعْفِ حَتَّى كَانَ يَقُولَ لِأَصْحَابِهِ لَا تُبَادِرُونِي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنِّي قَدْ بَدُنْتُ أَيْ كَبِرْتُ وَأَسْنَنْتُ فَاخْتَارَ أَيْسَرَ الْأَمْرَيْنِ، وَيَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لَا عَلَى الْأَرْضِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَعْتَمِدُ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيَرْفَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْخًا كَبِيرًا وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى وَيَقْعُدُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ صِفَةَ الْقَعْدَةِ الْأُولَى وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ شُرِعَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الشَّفْعَيْنِ، وَهَاهُنَا نَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ الْقَعْدَةِ وَذِكْرَ الْقَعْدَةِ.
أَمَّا كَيْفِيَّتُهَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَفْتَرِشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فِي الْقَعْدَتَيْنِ جَمِيعًا وَيَقْعُدُ عَلَيْهَا وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى نَصْبًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى كَذَلِكَ فَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يَتَوَرَّكُ، وَقَالَ مَالِكُ: يَتَوَرَّكُ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَتَفْسِيرُ التَّوَرُّكِ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ وَيُخْرِجَ رِجْلَيْهِ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَيَجْلِسُ عَلَى وَرِكِهِ الْأَيْسَرِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِيمَا وَصَفَ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ إذَا جَلَسَ فِي الْأُولَى فَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ عَلَيْهَا وَنَصَبَ الْيُمْنَى نَصْبًا وَإِذَا جَلَسَ فِي الثَّانِيَةِ أَمَاطَ رِجْلَيْهِ وَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ وَرِكِهِ الْيُمْنَى»، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَعَدَ فَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ عَلَيْهَا وَنَصَبَ الْيُمْنَى نَصْبًا»، وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «نَهَى عَنْ التَّوَرُّكِ فِي الصَّلَاةِ»، وَحَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ مَحْمُولٌ عَلَى حَالِ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ، وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَقْعُدُ كَأَسْتَرِ مَا يَكُونُ لَهَا فَتَجْلِسُ مُتَوَرِّكَةً؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ فَرْضِ السَّتْرِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ الْقَعْدَةِ، وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَ رِجْلِهِ الْيُمْنَى نَحْوَ الْقِبْلَةِ لِمَا مَرَّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ وَالْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ فِي حَالَةِ الْقَعْدَةِ كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّوَادِرِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ؛ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَعَدَ وَضَعَ مِرْفَقَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ وَكَذَا الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ»؛ وَلِأَنَّ فِي هَذَا تَوْجِيهَ أَصَابِعِهِ إلَى الْقِبْلَةِ، وَفِيمَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ تَوْجِيهُهَا إلَى الْأَرْضِ.
وَأَمَّا ذِكْرُ الْقَعْدَةِ فَالتَّشَهُّدُ وَالْكَلَامُ فِي التَّشَهُّدِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّشَهُّدِ، وَفِي بَيَانِ قَدْرِ التَّشَهُّدِ، وَفِي بَيَانِ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ، وَفِي بَيَانِ سُنَّةِ التَّشَهُّدِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ وَأَصْحَابُنَا أَخَذُوا بِتَشَهُّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِتَشَهُّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَمَالِكٌ أَخَذَ بِتَشَهُّدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ النَّامِيَاتُ الزَّاكِيَاتُ الْمُبَارَكَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ وَالْبَاقِي كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ اخْتَارَ تَشَهُّدَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ وَالصَّلَوَاتُ لِلَّهِ وَالْبَاقِي كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَفِي هَذَا حِكَايَةٌ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: أَبِوَاوٍ أَمْ بِوَاوَيْنِ؟ فَقَالَ: بِوَاوَيْنِ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ كَمَا بَارَكَ فِي لَا وَلَا، ثُمَّ وَلَّى فَتَحَيَّرَ أَصْحَابُهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ سُؤَالِهِ فَقَالَ: إنَّ هَذَا سَأَلَنِي عَنْ التَّشَهُّدِ أَبِوَاوَيْنِ كَتَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَمْ بِوَاوٍ كَتَشَهُّدِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ؟ فَقُلْت: بِوَاوَيْنِ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ كَمَا بَارَكَ فِي شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ لِيُعْلَمَ كَمَالُ فِطْنَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَنَفَاذُ بَصِيرَتِهِ حَيْثُ كَانَ يَقِفُ عَلَى الْمُرَادِ بِحَرْفٍ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ مِنْ شُبَّانِ الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا كَانَ يَخْتَارُ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَهُوَ مِنْ الشُّيُوخِ يَنْقُلُ مَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ التَّطْبِيقُ وَغَيْرُهُ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَصْفَ التَّحِيَّةِ بِالْبَرَكَةِ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} وَفِيهِ ذُكِرَ السَّلَامُ مُنَكَّرًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} {سَلَامٌ عَلَى إبْرَاهِيمَ} {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى.
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَّمَ النَّاسَ التَّشَهُّدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ وَعَلَّمَنِي التَّشَهُّدَ كَمَا كَانَ يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ: قُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ إلَى آخِرِهَا، وَقَالَ: إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ» وَأَخْذُ الْيَدِ عِنْدَ التَّعْلِيمِ لِتَأْكِيدِ التَّعْلِيمِ وَتَقْرِيرِهِ عِنْدَ الْمُتَعَلِّمِ، وَكَذَا أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ: قُلْ وَكَذَا عَلَّقَ تَمَامَ الصَّلَاةِ بِهَذَا التَّشَهُّدِ فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ لَا تُوصَفُ صَلَاتُهُ بِالتَّمَامِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا التَّشَهُّدَ هُوَ الْمُسْتَفِيضُ فِي الْأُمَّةِ الشَّائِعُ فِي الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَّمَ النَّاسَ التَّشَهُّدَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَكَذَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ فِي الْكُتَّابِ، وَذَكَرَ مِثْلَ تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ عَلَّمَ النَّاسَ التَّشَهُّدَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى نَحْوِ مَا نَقَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَكَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ» وَذَكَرَ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَالَتْ هَكَذَا تَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَبْلَغُ فِي الثَّنَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ عَطْفَ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْبَعْضِ فَكَانَ كُلُّ لَفْظٍ ثَنَاءً عَلَى حِدَةٍ وَفِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ إخْرَاجُ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الصِّفَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ كَلَامًا وَاحِدًا كَمَا فِي الْيَمِينِ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ، وَقَوْلَهُ وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمِينٌ وَاحِدٌ وَكَذَا السَّلَامُ فِي التَّشَهُّدِ مَذْكُورٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَفِي ذَلِكَ التَّشَهُّدِ مَذْكُورٌ عَلَى طَرِيقِ التَّنْكِيرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّامَ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّ اللَّامَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ مَعَ أَنَّ هَذَا مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى} {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} وَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِنْ التَّرْجِيحِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْأَحْدَاثِ عَلَى رِوَايَةِ الْمُهَاجِرِينَ، وَاحِدٌ لَا يَقُولُ بِهِ وَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَّمَ النَّاسَ التَّشَهُّدَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى.
وَأَمَّا مِقْدَارُ التَّشَهُّدِ فَمِنْ قَوْلِهِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إلَى قَوْلِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّشَهُّدِ حَرْفًا أَوْ يَبْتَدِئَ بِحَرْفٍ قَبْلَهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ عَلَيْنَا التَّشَهُّدَ بِالْوَاوِ وَالْأَلِفِ» فَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَمَا نُقِلَ فِي أَوَّلِ التَّشَهُّدِ بِاسْمِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الْأَسْمَاءِ وَفِي آخِرِهِ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ فَشَاذٌّ لَمْ يَشْتَهِرْ فَلَا يُقْبَلُ فِي مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ وَكَذَا لَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ الصَّلَوَاتِ وَالدَّعَوَاتِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى عِنْدَنَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ يَزِيدُ عَلَيْهِمْ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَاحْتَجَّا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَتَشَهَّدْ وَسَلِّمْ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ»، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «كَانَ لَا يَزِيدُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى التَّشَهُّدِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُسْرِعُ النُّهُوضَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى التَّشَهُّدِ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى التَّشَهُّدِ مُخَالِفَةٌ لِلْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الطَّحَاوِيَّ قَالَ: مَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَهُوَ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِمَذْهَبِ السَّلَفِ وَكَفَى بِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ فَسَادًا فِي الْمَذْهَبِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ وَمَحَلُّ الدُّعَاءِ آخِرُ الصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ سَلَامُ التَّشَهُّدِ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى التَّطَوُّعَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ وَلَوْ زَادَ عَلَى التَّشَهُّدِ قَوْلَهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ سَاهِيًا لَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَذُكِرَ فِي أَمَالِي الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ.
وَأَمَّا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَيَدْعُو بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَيَسْأَلُ حَاجَتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الدُّعَاءُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لِلدُّعَاءِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: «إذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ، ثُمَّ اخْتَرْ مِنْ الدَّعَوَاتِ مَا شِئْت» وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ بِمَا لَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ حَتَّى يَكُونَ خُرُوجُهُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ وَهُوَ إصَابَةُ لَفْظَةِ السَّلَامِ، وَفَسَّرَهُ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: مَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ هُوَ مَا لَا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ أَعْطِنِي كَذَا أَوْ زَوِّجْنِي امْرَأَةً، وَمَا لَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ هُوَ مَا يَسْتَحِيلُ سُؤَالُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَدْعُو بِحَاجَتِهِ وَيَسْتَغْفِرُ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ إنْ كَانَا مُؤْمِنَيْنِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَدِّمَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الدُّعَاءِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ ثُمَّ بِالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ الْمُتَدَاوَلُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأُمَّةِ، وَلَا يُكْرَهَ أَنْ يَقُولَ فِيهَا: وَارْحَمْ مُحَمَّدًا عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَبَعْضُهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ وَزَعَمُوا أَنَّهُ يُوهِمُ التَّقْصِيرَ مِنْهُ فِي الطَّاعَةِ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ عِنْدَ ذِكْرِهِ: رَحِمَهُ اللَّهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ أَحَدًا وَإِنْ جَلَّ قَدْرُهُ مِنْ الْعِبَادِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ إلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ قِيلَ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَازَ قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ رَحْمَةٌ ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ عِنْدَنَا بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا وَهِيَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَلَهُ فِي فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْأُولَى قَوْلَانِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْفَرْضِيَّةِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فِي صَلَاتِهِ» وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِتَمَامِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حُجَّةَ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا النَّدْبُ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بَلْ يَقْتَضِي الْفِعْلَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ قَالَ الْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضُ الْعُمُرِ كَالْحَجِّ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَعْيِينُ حَالَةِ الصَّلَاةِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» وَبِهِ نَقُولُ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ حَالَةِ الصَّلَاةِ فَقَدْ كَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: إنَّهَا فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: كُلَّمَا ذَكَرَهُ أَوْ سَمِعَ اسْمَهُ تَجِبُ.
وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَإِذَا امْتَثَلَ مَرَّةً فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ كَمَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْحَجِّ بِالْحَجِّ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ هُوَ الذِّكْرُ أَوْ السَّمَاعُ، وَالْحُكْمُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ كَمَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ بِتَكَرُّرِ أَسْبَابِهَا.
وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ، فَأَمَّا التَّشَهُّدُ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى فَوَاجِبٌ اسْتِحْسَانًا وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ الْأُسْرُوشَنِيُّ: إنَّهُ سَنَةٌ وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ التَّشَهُّدِ أَدْنَى رُتْبَةً مِنْ الْقَعْدَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ لَمَّا كَانَتْ فَرْضًا كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِيهَا وَاجِبَةً؟ فَالْقَعْدَةُ الْأُولَى لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةً يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِيهَا سُنَّةً لِيَظْهَرَ انْحِطَاطُ رُتْبَتِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ فَإِنَّ مُحَمَّدًا أَوْجَبَ سُجُودَ السَّهْوِ بِتَرْكِهِ سَاهِيًا وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ عَمْدًا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَكِنْ يَكُونُ مُسِيئًا، وَلَوْ تَرَكَهُ سَهْوًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ حَتَّى لَا تَجُوزَ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا سُنَّةُ التَّشَهُّدِ فَهِيَ الْإِخْفَاءُ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ وَعَدَّ مِنْهَا التَّشَهُّدَ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الثَّنَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَثْنِيَةِ وَالْأَدْعِيَةِ هُوَ الْإِخْفَاءُ وَهَلْ يُشِيرُ بِالْمُسَبِّحَةِ إذَا انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يُشِيرُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ سُنَّةِ الْيَدِ وَهِيَ الْوَضْعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُشِيرُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ فِي كِتَابِ الْمُسَبِّحَةِ حُدِّثْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَصْنَعُ مَا صَنَعَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُنَا ثُمَّ كَيْفَ يُشِيرُ؟ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: يَعْقِدُ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ وَيُشِيرُ بِالْمُسَبِّحَةِ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَعْقِدُ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ وَيُحَلِّقُ الْوُسْطَى مَعَ الْإِبْهَامِ وَيُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ، وَقَالَ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَالْكَلَامُ فِي صِفَةِ التَّسْلِيمِ وَقَدْرِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَحُكْمِهِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَاهُنَا نَذْكُرُ سُنَنَ التَّسْلِيمِ، فَمِنْهَا أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّسْلِيمِ عَنْ الْيَمِينِ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ؛ وَلِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا عَلَى الشِّمَالِ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهَا أَوْلَى.
وَلَوْ سَلَّمَ أَوَّلًا عَنْ يَسَارِهِ أَوْ سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ عَنْ يَسَارِهِ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا يُعِيدُ التَّسْلِيمَ عَنْ يَسَارِهِ، وَلَوْ سَلَّمَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنْهَا أَنْ يُبَالِغَ فِي تَحْوِيلِ الْوَجْهِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يُحَوِّلُ وَجْهَهُ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأَوْلَى حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ أَوْ قَالَ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ» وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ شِدَّةِ الِالْتِفَاتِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّسْلِيمِ إنْ كَانَ إمَامًا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فلابد مِنْ الْإِعْلَامِ، وَمِنْهَا أَنْ يُسَلِّمَ مُقَارِنًا لِتَسْلِيمِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي التَّكْبِيرِ، وَفِي رِوَايَةٍ يُسَلِّمُ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا قَالَا فِي التَّكْبِيرِ وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَمِنْهَا أَنْ يَنْوِيَ مَنْ يُخَاطِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ خِطَابَ مَنْ لَا يَنْوِي خِطَابَهُ لَغْوٌ وَسَفَهٌ ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا فَإِنْ كَانَ إمَامًا يَنْوِي بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى مَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنْ الْحَفَظَةِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَبِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنْهُمْ، كَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْحَفَظَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ ظَنَّ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ يُقَدِّمُ الْحَفَظَةَ فِي النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ خِطَابٌ فَيَبْدَأُ بِالنِّيَّةِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَهُمْ الْحَفَظَةُ ثُمَّ الرِّجَالُ ثُمَّ النِّسَاءُ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُقَدِّمُ الْبَشَرَ فِي النِّيَّةِ اسْتِدْلَالًا بِالسَّلَامِ فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ قَوْلُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، قَدَّمَ ذِكْرَ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ إذْ الْمُرَادُ بِالصَّالِحِينَ الْمَلَائِكَةُ فَكَذَا فِي السَّلَامِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَرَى تَفْضِيلَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ ثُمَّ رَجَعَ فَرَأَى تَفْضِيلَ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَهِيَ تَنْتَظِمُ الْكُلَّ جُمْلَةً بِلَا تَرْتِيبٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَى جَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَتِّبَ فِي النِّيَّةِ فَيُقَدِّمُ الرِّجَالَ عَلَى الصِّبْيَانِ؟ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الْحَفَظَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْوِي الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَوَاحِدًا عَنْ يَسَارِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْوِي الْحَفَظَةَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَلَا يَنْوِي عَدَدًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ بِطَرِيقِ الْإِحَاطَةِ وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ نِيَّةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْوِي مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ لَا غَيْرُ، وَكَانَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ يَقُولُ: يَنْوِي جَمِيعَ رِجَالِ الْعَالَمِ وَنِسَائِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ خِطَابٌ وَخِطَابُ الْغَائِبِ مِمَّنْ لَا يَبْقَى خِطَابُهُ وَلَيْسَ بِخَيْرٍ مِنْ خِطَابِ مَنْ يَبْقَى خِطَابُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ يَنْوِي الْحِفْظَةَ لَا غَيْرَ وَعَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ يَنْوِي الْحِفْظَةَ وَجَمِيعَ الْبَشَرِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ.
وَأَمَّا الْمُقْتَدِي فَيَنْوِي مَا يَنْوِي الْإِمَامُ، وَيَنْوِي أَيْضًا إنْ كَانَ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ يَنْوِيهِ فِي يَسَارِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ يَنْوِيهِ فِي يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَنْوِيهِ فِي يَمِينِهِ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا عَلَى الْيَسَارِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْوِيهِ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ يَمِينَ الْإِمَامِ عَنْ يَمِينِ الْمُقْتَدِي وَيَسَارَهُ عَنْ يَسَارِهِ فَكَانَ لَهُ حَظٌّ فِي الْجَانِبَيْنِ فَيَنْوِيهِ فِي التَّسْلِيمَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.